تقع ضيعة بقرصونا في قضاء الضنية ذو الغالبية السنية في شمال لبنان وهو يبعد عن بيروت 120 كم وعن مدينة طرابلس ثاني أكبر مدينة في لبنان حوالي 40 كم. وقضاء الضنية معروفة بطقسها البارد صيفا والمثلج شتاءا حيث إنها عبارة عن سلسلة جبال, مما يجعلها مقصدا للاصطياف. في أواخر الخريف السابق ، كان لي تجربة الذهاب في رحلة إلى بقرصونا للقاء صديقنا محمد درويش , وهذه بعض من خواطر الرحلة.
غالبا ما يحب السياح في لبنان أن يأتوا إلى الأماكن المشهورة , المكتظة والمكلفة . لكننا نرغب عكس ذلك. نحن نبحث عن أبعد الأماكن عن الحضارة , حيث لا إرسال للهواتف المحمولة ولا ذبذبات كهرومغناطسية ولا قناني بلاستيك فارغة. نتماهى بالطبيعة , ومع الطبيعة .
بعد الإنطلاق من مدينة طرابلس صباحا وصلنا الضنية بعد نصف ساعة. التقينا بصديقنا محمد الذي كان قد حضر لنا "ترويقة" مفتخرة من الأكل المحلي من بيض بالسمن البلدي ومنقوش بالزعتر على الحطب. ومن ثم بدأت رحلتنا صعودا بالجبال.
على علو 1700 متر, استقبلتنا أشجار بقرصونا الخريفية محاولة إخفاء الثلج وراءها. لكن الجبال الشامخة أبت إلا أن تظهر شيبتها.
بدأت أعمدة الكهرباء بالإختفاء , وهذه علامة جيدة. وبدت الطريق وكأنها سائرة إلى الأبد.
وصلنا إلى سد بريصا. هذا السد يحتفظ بالثلج في فصل الشتاء وعند ذوبانه في الصيف يروي الشجر والبشر. هنا سنقطع الحدود بين التراب و الثلج . من الآن فصاعدا لن تسعفنا سياراتنا , علينا أن نتسلق الجبال سيرا.
هذا ما يبدو عليه الجبل . كلما تسلقت صعودا , كلما بهتت الحياة. حددت الهدف منذ البداية : سأصل للقمة. حزمنا أمتعتنا و توكلنا.
قليل من الدحرجة والتراشق يفرح القلب ويدفأ الجسد.
هذه بركة ماء تحاول جاهدة مقاومة البرودة علها تفلت من عقاب التجلد , لكن الشتاء قادم , ولن يكون هناك أي مهرب.
جداول الماء العذبة تنسكب منعشة في التقاء جميل للماء والثلج والتراب , وحتى الأعشاب.
الغيوم , الثلج , الصخور , كل شيء هنا أبيض . إلا الأشجار . ففي الأشجار حياة , والحياة لا تستسلم بسهولة. هي تبقى تصارع الثلج إلى أن يحين كانون , حيث لا مفر من أمتار الثلوج الخمسة التي ستتساقط عليها. عندها ينتهي كل شيء , ويحل ضباب الموت الأبيض مغطيا الجميع.
من هنا يمكنني أن أرى الثلج والجبل والساحل والبحر.عندما تنظر وراءك للخلف, تشعر بالفخر . لقد تسلقت كل هذه المسافة ! ولكن الآن عليك أن تركز على هدفك, أن تصل للقمة. هناك ستشعر بالسعادة الأسمى .
وأخيرا , هذه هي القمة , أو بالأحرى , هذا ما أعتقد أنه القمة . لأن خلف كل قمة .... قمة . شعرت بخيبة الأمل . انتهيت من قمة ولاحت لي قمم . ولكنني لن أمضي حياتي ساعيا وراء القمم. سأعود للخلف. سأستذكر الماضي ، سأبحث عن قطعي المفقودة.